الدرس في كتاب الطهارة 12، ألقاها
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله حمداً كثيراً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
ثم أما بعد، مر معنا في الدرس الماضي الكلام على بعض سنن الفطرة، وذكر منها الاستحداد والختان، واليوم بإذن الله جل وعلا نكمل ما تبقى من الخصال المذكورة في الحديث. في حديث أبي هريرة: قالوا، الثالث، قص الشارب وإحفاؤه، وهو المبالغة في قصه، لما في ذلك من التجمل والنظافة ومخالفة الكفاة.
وقولهم "قص الشارب وإحفاؤه" قد يراد به أن الإحفاء غير القص، وقد يراد به أن القص والإحفاء قد يأتيان بمعنى واحد. ومسألة قص الشارب، كما ذكر، والمبالغة في قصه، قولهم "وهو المبالغة في قصه" أي الإحفاء، إشارة إلى المعنى الثاني، إلى أن الإحفاء مبالغة في القص، وليس هو بمعنى استئصال الشارب، ولكن المبالغة في تقصيره، وهذا قول لأهل العلم.
ومن أهل العلم من قال بأن المراد بالإحفاء، إحفاؤه من على الشفاة، أي قصه من على الشفاة العليا بحيث تظهر الشفاة. ومن أهل العلم يذكر بأن معنى الإحفاء هو استئصال الشارب. وبعض أهل العلم أنكر هذا المعنى، بل قد ثبت عن الإمام مالك، رحمه الله تعالى، أنه ذكر بأن معنى الإحفاء هو إحفاؤه، بمعنى قصه ورفعه من على الشفاة، وأن من استئصاله من أصله فإنه مثله وإنه يعزر.
والقول هو ما قاله الإمام النووي، رحمه الله تعالى، من أن القصة أفضل، لأحاديث المذكورة في ذلك. أما الإحفاء أو الجزء والمبالغة أو استئصال الشارب من أصله وحلقه، فهذا وإن كان قال به من قال من أهل العلم، إلا أنه في المسألة خلاف. فالشاهد أن الأفضل هو القص، ومن حلق أخذاً بظواهر هذه الأحاديث وبقول من ذهب إلى هذا القول من أهل العلم، فكذلك يكون آخذاً بالحديث ممتثلاً له بإذن الله جل وعلا. ولكن الكلام فيما ذكر في الأفضل، أيهما أفضل؟ فالأفضل هو القص وعدم الاستئصال، فأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر بعضها بعضاً، فقوله "قص الشارب" واضح نص واضح صريح، والإحفاء وقع فيه الاحتمال، أي فيه إجمال. والقاعدة عند العلماء أن يحمل المجمل على المبين.
ومع هذا، من ظهر له أن الأمر ظاهر وليس بمجمل، فأخذ بمعنى الحلق للشارب، فالأمر في هذا واسع، والله تعالى أعلى وأعلم.
طيب، قالوا: وقد وردت الأحاديث الصحيحة في الحث على قصه وإحفاؤه. في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، "جزوا الشوارب وأرخوا اللحى وخالفوا المجوس." وقد جاء في بعض الأحاديث بأن المجوس كانوا يرخون الشوارب ويحلقون اللحى. وهذا للأسف حال كثير من المسلمين اليوم، إذ الشارب موفر، وأما اللحية فقد حلقها، فمثل هؤلاء فيهم مشابهة للمجوس.
وقالوا: وحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، "خالف المشركين، وفِّروا اللحى وأحفوا الشوارب." وهذا كذلك يبين لنا أن هذا الحال وحال أهل الشرك. فمما يجب على المسلم أن يرخي لحيته، فإرخاء اللحية واجب على الصحيح من أقوال أهل العلم لظواهر الأدلة الكثيرة المتكاثرة في ذلك.
فالحديث كما ترون بلفظه الأمر "جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالف المشركين، وفِّروا اللحى." وكذلك جاء في الصحيح في حديث ابن عمر وغيره قال، "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحى." والأمر الأصل فيه أنه للوجوب ولا صارف له. هنا قالوا، فعلى المسلم أن يلتزم بهذا الهدي النبوي، ويخالف الأعداء، ويتميز عن التشبه بالنساء، لأن المرأة هي التي من خصائصها التجمل وطلب شيء من معنى التلطف، وما شابها ذلك. أما الرجل، فهو رجل، واللحى تدل على هذا المعنى، على أنه رجل.
وأيضاً في قولهم "ويتميز عن التشبه بالنساء" فيه إشارة إلى مسألة، وهي: ما إذا ظهرت اللحية في المرأة، فهل تترك المرأة اللحية وتقول قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحى؟ الجواب أن المرأة يستحب لها إن نبت فيها شيء من الشعر في وجهها أن تحلق هذا الشعر، لأن الأحاديث المذكورة إنما هي في الرجال. وهذا قد يحصل في بعض النساء أنهن ربما ينبت في بعضهن شيء من الشعر كاللحية. فمثل هؤلاء لا بأس، بل يستحب لهن أن يحلقن ذلك، لأن الأصل في المرأة التجمل بخلاف الرجل.
طيب، الأمر الرابع، قالوا: تقليم الأظفار، وهو قصها بحيث لا تترك حتى تطول. والتقليم في اللغة بمعنى القلم مع القطع. فمعنى "تقليم الأظفار" أي قطعها وقصها، لذا قالوا "قصها بحيث لا تترك حتى تطول." والتقليم يجملها ويزيل الأوساخ المتراكمة تحتها. وقد خالف هذه الفطرة النبوية بعض المسلمين، فصاروا يطيلون أظفارهم، أو أظفار إصبع معين من أيديهم، كل ذلك من تزيين الشيطان والتقليد لأعداء الله. وهذا كما ذكر من السنن، وهي من سنن الفطرة، من سنن الإسلام، من سنن الأنبياء، أن تقص الأظافر. وهذا يشترك فيه الرجال والنساء. قص الأظافر يشترك في هذه السنة الرجال والنساء.
وللأسف، كما ذكر، أن بعض النساء أو قل كثير من النساء ممن يتشبه بأعداء الإسلام، فتطيل أظفارها، بل ربما وصل هذا الأمر، أو قل بل حصل هذا الأمر ووقع في كثير من الرجال، من الشباب. بعض الشباب ممن ضعف دينه وضعف كذلك عقله، تجده يطيل بعض الأظافر تشبهاً بأعداء الإسلام. والنبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يقول، كما في سنن أبي داود، في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، "من تشبه بقوم فهو منهم." فأقل أحواله أن يكون آثماً، من فعل هذا الفعل يكون آثماً، إما أن يكون متشبه بالكافرين، وإما أن يكون متشبه بالفاسقين العاصين. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول، "من تشبه بقوم فهو منهم." يحذر المسلم والمسلمة من هذا العمل.
قالوا: الخامس، نتف الإبط، أي إزالة الشعر النابت فيه. قالوا، فيسن إزالة هذا الشعر بالنتف. وهذا هو الأصل، لأن النتف جاء به السنة، يعني جاء في الحديث المذكور، "و نتف الإبط." فالأفضل في الإبط أن ينتف لمن قوي على ذلك، فمن لم يستطع ذلك، فله أن يحلق ذلك، أو أن يستخدم بعض المزيلات. قد ثبت عن الإمام الشافعي، رحمه الله تعالى، أنه قال، "قال نتف الإبط سنة، ولكني لا أقوى عليه، فأحلق." فالحاصل أن المعتبر في ذلك هو إزالة الشعر، والأفضل في هذه الإزالة أن تكون بالنتف لمن قوي عليها. فمن لم يقوى عليها، انتقل إلى إزالة ذلك الشعر بما تيسر له وبما استطاع.
لذا قالوا، فيسن إزالة هذا الشعر بالنتف أو الحلق أو غيرهما من الأشياء المزيلة. كان في الزمن السابق، السلف يستخدمون النورة لتساقط الشعر، والآن هناك مزيلات كثيرة يستخدمها الناس لهذا المعنى. فالحاصل أن أي شيء وقع فيه أو تم، وحصل به هذا المقصود، فإنه يكون داخلاً في المعنى المطلوب.
قالوا، لما في إزالته من النظافة وقطع الروائح الكريهة التي تتجمع مع وجود هذا الشعر. فهذا هو ديننا الحنيف، أمرنا بهذه الخصال، لما فيها من التجمل والتطهر والنظافة، وليكون المسلم على أحسن حال، متعداً عن تقليل الكفار والجهال، مفتخراً بدينه، مطيعاً لربه، متبعاً لسنة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. بمعنى أن الإنسان كلما أظهر هذه الخصال، وامتثل هذه الخصال، كلما كان فيه معنى من معاني إظهار الإسلام في نفسه، وإظهار عزة هذا الدين لغيره. وهذا مطلب شرعي لمن حسنت نيته.
قالوا: ويضاف إلى هذه الخصال الخمس السواك واستنشاق الماء، ويضاف إلى هذه الخصال الخمس السواك واستنشاق الماء والمضمضة وغسل البراجم. قالوا، البراجم، وهي العقد التي في ظهور الأصابع، يجتمع فيها الوسخ. قال العلماء، يعني في عقد الأصابع، بعض الناس، ربما وقع فيه بعض الأوساخ، في مفاصل الأصابع. بعض الناس، ربما تقع فيه أوساخ، فيستحب أن يغسلها.
ويستحب أن يغسلها على الحديث الذي رواه مسلم، وسيأتي ذكره. قالوا، وهي العقد التي في ظهور الأصابع يجتمع فيها الوسخ، والاستنجاء، وذلك لحديث عائشة رضي الله عنها، قالت، "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظافر، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء." قالوا، "يعني استنجاء." قال مصعب بن شيبة، أحد رواة الحديث، "ونسيت العاشرة، إلا أن تكون المضمضة." والحديث رواه مسلم. وبعض أهل العلم تكلم في هذا الحديث.
والحاصل أن الحديث فيه إلى جنب خصال مذكورة الخمس خصال أخرى، فيه خصال أخرى مذكورة، وهي كما ذكر، السواك، وقد تقدم الكلام عليه، والاستنشاق الماء، وسيأتي بإذن الله جل وعلا الكلام عليه، والمضمضة، وغسل البراجم. البراجم، كما سمعتم، هي العقد، أو عقد الأصابع من مفاصلها.
وذكر العلماء، رحمهم الله تعالى، أنه يلحق بهذا، يلحق بالبراجم، قالوا، كل ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن. في معاطف الأذن، أحياناً، تقع أوساخ، فيستحب كذلك مسحها. قالوا، وكذلك ما يجتمع في داخل الأنف، ما يجتمع في داخل الأنف من أوساخ، كذلك يستحب تنظيفها. قالوا، وكل ما يتجمع فيه الوسخ بسبب العرق أو نحوه، يستحب تنظيفه.
وفي هذا دلال على عظيم قدر هذا الدين، وأنه دين الطهارة، ودين النظافة، ودين الطيب، فهو طيب، بحمد الله رب العالمين.
طيب، ها هنا مسألة، حتى نكمل بها هذا الباب، وهي: هل هناك مدة يكون فيها الحلق والتقصير، أي حلق العانة ونتف الإبط وقص الشارب وتقليم الأظفار، إلى آخر ذلك؟ أم أن الأمر مطلق لا مدة له؟ الجواب عن هذا ما رواه الإمام مسلم، رحمه الله تعالى، في صحيحه من حديث أنس، رضي الله عنه وأرضاه، قال، "وقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قص الشارب ونتف الإبط وحلق العانة وتقليم الأظفار، ألا يزيد على الأربعين ليلة."
قال العلماء، رحمه الله تعالى، ومعنى هذا أن هذه المدة هي المدة القصوى لهذا الأمر، بمعنى ألا تزيد على هذه المدة، لا أن تقل. بمعنى أن من قلّم أظفاره كلما طالت أظفاره، مثلاً في الأسبوع مرة، أو في العشرة أيام، أو في الثلاثة أيام، كل ذلك حسن. من كان ينتف إبطه كذلك في فترات قبل الأربعين، هذا حسن. من كان يحلق كذلك عانته قبل الأربعين، فكذلك حسن.
بل قال العلماء، رحمهم الله تعالى، أن في أحاديث الجمعة من أحاديث التجمل والنظافة والتطهر فيه إشارات إلى أنه يستحب أن يفعل ذلك كل جمعة. فيه إشارات إلى أنه يستحب أن يتطهر وأن ينظف، يعني تقليم الأظفار، قص الشارب، وما يحتاج إزالته من الشعور. قالوا، يستحب أن يكون في كل جمعة، لأحاديث الجمعة، لما فيه من معاني التطهر والتطيب والتنظف لحضور الجمعة.
قالوا، فإذا يكون حديث أنس فيه أن هذه المدة، يعني هذه المدة لا يتجاوزها المسلم، يعني إنسان، بعض الناس قد لا يطيل أظفاره سريعاً، أو الشعور لا تطول سريعاً، فهذا يتأخر إلى الأربعين، بعد الأربعين لا يجاوز الأربعين ليلة. هذا كما سمعتم.
وقد نبه بعض أهل العلم على أن من كان يحصل له الطول سريعاً في شعوره، لسيما في بعض المواضع، إذا كان يطول طولاً فاحشاً وسريعاً قبل الأربعين ليلة، كذلك يستحب له إزالتها قبل الأربعين، يستحب له إزالتها قبل الأربعين. والله تعالى أعلى وأعلم.
سبحانك اللهم بحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.